كشفت جائحة كوفيد 19 عمق الأزمة التربويّة التي يعاني منها قطاع التعليم في البلاد العربية وضعف الجهوزية عند معظم المدارس في مواجهة التحديات وتركت الآلاف من الطلاب محرومين كليّاً من فرص التعلّم لفتراتٍ زمنيّةٍ امتدت في بعض الحالات إلى العام الدراسي بمجمله. ورغم الامتداد العالمي لهذه الأزمة، إلّا أنّها أرخت بثقلها على الجسم التربوي العربي وهوغارقٌ في نمطيّته وتأخّره عن ركب ما توصّلت له الأبحاث التربوية لا سيّما فيما يتعلّق بطرائق التّعليم الفعّالة. ورغم النقاط المضيئة في بعض الدول العربية، إلّا أن المعلّمين بمعظمهم واجهوا تداعيات هذه الجائحة بشعور من العجز والهلع على مستقبل طلابهم ومدارسهم. في مواجهة هذا الواقع، وبينما العالم يتهيّأ لإعادة تأطير العملية التربوية لمستقبل ما بعد الجائحة، يتحتّم علينا كتربويين عرب أن نتوجّه نحو التفكّر بمدى فعاليّة البنية المفاهيميّة لنظامنا التربويّ لاسيما تلك التي تتناول دور المعلمين والمهمات المناطة بهم بما يتعلق بعملية التطوير.
اتفق العديد من الباحثين الأكاديميين على أنّ قيادة التعلّم وبناء خزين قيادي في المدرسة مرتبطان ارتباطاً مباشراً بفعاليّة التعليم وتحصيل الطلبة في المدارس وكذلك بتحقيق تطوير مدرسيّ مستدام (دارش ، 2001 ؛ دورياس ، 2010 ؛فلن، 2002؛ ليثوود وجانتزي ، 2005).وبالتالي فقد ركّزت العديد من المبادرات التطويرية في العقود الأخيرة على بناء القدرات القيادية للمعلمين كوسيلة لتحقيق التطويرالمدرسيّ المستدام واعتبرتها ركيزة أساسيّة لنجاح أيّ مبادرة تطويرية (دانيلسون ، 2007 ؛ دورياس ، 2010 ؛ هيلتربران ، 2010 ؛ كاتزنماير ومولر ، 2009). وتنوّعت في هذا السياق تعريفات القيادة الفعّالة ولكنها ارتبطت بمفهوم القيادة التشاركيّة والموزّعة التي تتجاوز سلطة الموقع وتعطي المعلم فرص للإنخراط بأدوارٍ قياديّةٍ مختلفة في المدرسة بغض النظر عن دوره الوظيفي. وبالتالي تطوّر مفهوم القيادة ليصبح ضمن نطاق الهوية المهنية للمعلم موسّعاً لهذه الهويّة لتتجاوز غرفة الصف وليصبح المعلم مساهماً في قيادة عمليّة التعلّم في المدرسة (فرُست، 2012؛ هالنجر، 2010).
تناولت هذه المداخلة عرضاً لنتائج بحث حول تجربة أربع مدارس مشاركة في مشروع تمام tamamproject.org)) في مواجهة تداعيات الجائحة بما يتعلق بطبيعة وأثر الدور الذي لعبه المعلمون كقادة لعملية التعلّم والتطوير المستند إلى المدرسة. تناول هذا البحث سؤالين: ما الكفايات التي ساعدت المعلّمين في هذه المدارس لقيادة التعلّم خلال هذه الأزمة؟ وما هو أثر استثمار هذه الكفايات خلال هذه المرحلة على العمليّة الأكاديميّة وعلى تعلّم وتحصيل الطلبة؟ كما تقدم هذه المداخلة الدروس المستفادة من هذا البحث.
تمام هو مشروع بحثي تطويري يطمح لأن يؤسس لحركة تربويّة في العالم العربيّ تهدف إلى تحويل المدرسة إلى مؤسّسة متجدّدة ذاتياً تمتلك خزينًا من القدرات القياديّة للتغيير والتجدد المستدام. تضمّ نشاطات تمام برنامج لبناء القدرات القيادية عند الممارس التربويّ يهدف إلى ان يكتسب المعلم كفايات قياديّة تعزّز قدراته القياديّة وتزيد من التزامه وحافزيّته للانخراط وقيادة عمليّة التطوير المستند إلى المدرسة.
بالنسبة لمصادر المعلومات لهذا البحث، فتناولت البيانات الموجودة عن طريق التواصل الفردي والجماعي الذي حصل مع أعضاء فرق تمام القيادية في هذه المدارس خلال هذه المرحلة وكل البيانات الموثّقة ضمن نشاطات مشروع تمام. تمّ تحليل البيانات نوعيّاً، حيث أظهرت هذه المدارس المشاركة في مشروع تمام، مع تنوّعها واختلاف ظروفها، جهوزيةً عاليةً في إدارة هذه الأزمة واستثمارتحدّياتها للتطوير. وتبيّن أنّ هذه الجهوزية تعود لامتلاك هذه المدارس خزيناً قيادياً لإدارة التغيير والتجديد نتيجة خضوع معلميها لتدريب ممنهج يقدّمه المشروع ضمن مقاربة متكاملة مبنية على البحث والتجريب لتمكين التربويين كقادة للتطوير ليستثمروا خبراتهم مجتمعةً لقيادة التعلّم واستدامة التطوير.
انتهى عرض هذا البحث بتوصياتٍ على مستوى البحوث وعلى مستوى الممارسة بما يتعلّق بالمدرسة والسياسات التربويّة لاستثمار الدروس المستفادة من هذه المحنة لتحقيق تغيير تربوي مستدام في المنطقة العربية.